تونس ليست لبنان. قلتها فانهالت علي الشتائم والتهم. لكني أعيدها، تونس ليست لبنان من حيث الإغتيالات السياسية. فقد عانى لبنان في الستين سنةً التي تلت استقلاله عشرات الإغتيالات المدبرة، حصدت أرواح رؤساء وزعماء أحزاب ووزراء ورجال دين وغيرهم من القيادات. أما تونس ما بعد الإستقلال فقد شهدت جريمةً واحدةً من هذا الحجم، تلك التي استهدفت صالح بن يوسف، منافس الحبيب بورقيبة رئيس الدولة آنذاك، سنة 1961. وتمت العملية في ألمانيا.
أصبح الإغتيال السياسي منذ ذلك الوقت يعني، بالنسبة للمواطن التونسي، سجناً مؤقتاً وأحياناً رفيعاً، أو نفياً، أو ضرباً، أو فبركة شريط إباحي، أو تعكير حياة العائلة وغيرها من الأساليب القبيحة -وغير المميتة التي تفنن فيها النظام البائد. فكانت الرصاصات الأربع التي ضربت شكري بلعيد يوم الإربعاء 6 فيفري 2013 كافيةً لقلب الموازين.
كل من يدخل معترك السياسة في لبنان يعرف ما ينتظره من مخاطر، ولذلك فقلما يطلع زعيم سواءً من الموالاة أم من المعارضة من دون حماية. أما في تونس فالعكس تماماً: "نورمال، طريحة وتتعدى". يكون العنف هو السقف، والسجن هو الهاوية، وفوق السقف شمس ومن الهاوية يصعد السلم. "فيه أمل". الخطر نسبي. فشكري بلعيد مثلاً كان يتجول بمفرده أو مع رفيق أو إثنين، عادةً ما تجاوزا الأربعين وتقلدا البطن العربي اللعين. كان له رفيق، أو رفاق، ولكن لا مرافق ولا مرافقة أمنية ولا خطة ولا واق من الرصاص.
قبل الثورة كان الخوف مخيماً علينا جميعاً في تونس، ففضل أغلب الشعب إعتزال السياسة، فيما إختار سياسيون التملق توجهاً ولجأ المثقفون إلى الصالونات المغلقة للتهامس حول مستقبل البلد، وهجر الوطن جمع آخر سواءً طوعاً أم إلزاماً. لكن بقي في تونس أصحاب قلوب من نار لحمل المشعل. لو لم يبق في تونس رجال مثل شكري بالعيد ونساء كزوجته لربما صرنا مملكةً أو مزرعةً لعائلة الرئيس. علا صوتهم كلما إشتد الظلم، ورغم عزلتهم وتجنب العامة لهم، صانوا نار الحرية إلى يوم 14 جانفي 2011 ورحيل بن علي. لكن هذه المجموعة الصغيرة كانت تعرف أن النظام لن يتجرأ على اغتيالها مهما فعلت، بسبب خوفه على صورته في الخارج أولاً، ولكن ايضاً بسبب ابتكاره لأساليب تعذيب تحطم همة الإنسان وتدمر عقله، جعلت طاغية نوفمبر في غنًى عن سفك الدماء.
رجع المشردون مع الثورة إذاً والتحقوا بالمجموعة المناضلة وبدأت التحالفات تعقد وتحل فتعاقبت الحكومات وأتت الانتخابات وانبثقت عنها "الحكومة الشرعية المؤقتة الإنتقالية". لكن طيلة تلك الفترة، ولسنتين من الزمن، ظلت بعض الجهات تعارض، ومنها حزب الوطنيين الديمقراطيين (وطد) الماركسي لشكري بلعيد. رأى "الوطد" أن تغلغل جمعيات دعم الديمقراطية الغربية وإهتمام المنظمات الدولية بتونس تدخل أجنبي، فرفعوا شعار لا للإمبريالية. كما إعتبر الحزب أن سياسة الحكومات التي تلت إنهيار الدولة البوليسية هي سياسة رأسمالية، فقالوا لا للرأسمالية. ثم شكوا في أن هناك نية للتطبيع مع إسرائيل، فصرخوا لا للتطبيع. وهكذا دواليك. لاءات متتالية جعلت من الوطد، والأحزاب اليسارية والقومية التي اجتمعت معه لاحقاً تحت راية الجبهة الشعبية، عقبةً في طريق حكومات الغنوشي وقائد السبسي والجبالي. محدودة الشعبية هي الجبهة الشعبية، لكنها كبعوض منتصف الليل، يؤرقك مادمت لم تقتله. وكان بلعيد منسق الجبهة، وأحد أكثر السنتها لذعاً.
وهكذا من الطبيعي أن يكون للرجل أعداء، أكثرهم تاريخيون. فداخل اليسار القومي انشقاقات جذرية غريبة ترجع أحياناً إلى تناقضات ماو مع ستالين، أو إلى مقررات مؤتمرات الإتحاد السوفيتي المختلفة. وهذا ما حاولت الجبهة الشعبية تخطيه، وبدأت تنجح فيه. كما مثل هذا التيار العدو الأعرق للنظام القائم في تونس منذ الإستقلال، حزب الدستور، الذي تواصل حكمه ولو بوجوه مختلفة حتى انتخابات أكتوبر 2011. لكن هفت الحقد في الأشهر الأخيرة وإعتبرت قيادات الجبهة أن من الأفضل التركيز على غريم واحد، وهو الحزب الحاكم، أي حركة النهضة. وربما كان الإسلاميوأكثر الناس حقداً على اليسار القومي في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات. فقد رأى أمثال شكري بلعيد في توجهات الإسلام السياسي خطراً أشد من الدكتاتورية القائمة حينها: دين ورأسمالية وتكبيل للمرأة. ولعل ذلك الصراع التاريخي هو ما جعل صفحات الفايسبوك الإسلامية السياسية تضع الرفيق شكري في مقدمة أهدافها منذ أولى أيام الحرية، فأنزلت به كل صفات التشويه. كما كفره بعض المتأسلمين والشباب الدخيل على الدين، وخونه شق آخر. تعرض للمضايقة في الشارع أحياناً، وللشتم المباشر وحتى لللكم. لكن لا أحد كان يظن أن هذا الكم من الحقد سيصل إلى حد إقامة الحد.
لقد تغيرت قواعد اللعبة إذاً.
"في مصلحة من تصب الجريمة؟"، "مؤامرة ماسونية صهيونية"، إلخ. هذا أول ما خطر في بال العقول المؤامراتية. لذلك، وبدلاً من إلتزام الصمت وإنتقاد الذات بعد الحادثة، آثر أتباع الحزب الحاكم الهروب إلى الإمام وإتهام اليسار والحزب البائد والتحالف الكوني المعادي للثورة والدين. ثم استغلوا ردة فعل فرنسا، وقد تمثلت في تطرف علماني ذي نزعة استعمارية، لتأجيج حركة شعبوية ضد المستعمر السابق، فخرج الشعب "تلقائياً" ليندد بفرنسا، وكأن القذافي حي فينا.
كما تناسى سياسيو الترويكا (النهضة والحليفان العلمانيان، وهما من أصغر الأحزاب على الساحة اليوم) كل التحريض الذي قادوه ضد شكري بلعيد، رجل واجه استبداد بن علي وسجونه وجلاديه، حولوه إلى عميل وبوليس ومرتش. لم نسمع ولو إعتذاراً رسمياً من قيادات النهضة على كل ما عاناه الراحل منهم قبل مماته. لم يرد خبر عن تكثيف التحقيقات حول الأسلحة التي عثر عليها في أماكن عدة من تونس، ولا حول الإشاعات التي تداولتها أوساط السياسة والصحافة حول إرتباط بعض مهربي الأسلحة بعناصر قريبة من النهضة. لم يتم التجاوب مع مطالب المعارضة بحل لجان حماية الثورة والفرق السلفية (قريبة من النهضة ايضاً) التي بدأت تشبه الباسيج الإيراني وتعكر كل إجتماع سياسي معارض.
في المقابل خرجت مجموعات مسلحة بهراوات وسكاكين تدعي حماية تونس، وتفاخر بوقوفها مع الحكومة الشرعية، وتنادي بالقصاص من اليسار المخرب والنظام البائد وأيتام فرنسا. يتناسى هؤلاء أن آخر من قال إنه سيحمى حمى هذا الوطن كان زين العابدين بن علي. وربما يجهلون أن الإستعمار الفرنسي كان إسمه "نظام الحماية". ثم خرج جماعة الحزب الحاكم للتظاهر يوم السبت مساندةً للحكومة ومواجهةً لتدخل فرنسا في شؤون تونس وطبعاً إسكاتاً لكل معارضة. ولايزالون يهيجون الشارع لمناسبات أخرى في الإيام القادمة.
ربما تكون النهضة بريئةً من دم شكري بلعيد، لكن ما فعلته بعد العملية يثير التساؤل. فالإرتباك والإتهامات الجزافية واستعراض القوة والتهديد المتواصل وتصعيد المواقف يشير إلى أن الحركة تخفي شيئاً ما، أو تخاف شيئاً ما، أو تعد لشيء ما.
يفسد الحكم من يميل لملذاته. هكذا تحول معظم مقاتلو الحرية في التاريخ إلى طغاة بلا رأفة. أغلى ما ربحته تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن والبحرين مع تصدع هياكل الدكتاتورية كان إنهيار جدار الخوف. ستكون عودته نهاية الربيع العربي.